فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



منها- أن يتساءلوا عن مدة لبثهم، كقوله: {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف: 19] الآية.
ومنها- إعلام الناس أن البعث حق، وأن الساعة حق لدلالة قصة أصحاب الكهف على ذلك. وذلك في قوله: {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} [الكهف: 21] الآية.
واعلم أن قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة {ثم بعثناهم لنعلم} الآية- لا يدل على أنه لم يكن عالمًا بذلك قبل بعثهم، وإنما علم بعد بعثهم.
كما زعمه بعض الكفرة الملاحدة! بل هو جل وعلا عال بكل ما سيكون قبل أن يكون، لا يخفى عليه من ذلك شيء. والآيات الدالة على ذلك لا تحصى كثر.
وقد قدمنا- أن من أصرح الأدلة على أنه جل وعلا لا يستفيد بالاختبار والابتلاء علمًا جديدًا سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا- قوله تعالى في آل عمران: {وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [آل عمران: 154] فقوله: {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} بعد قوله: {وليبتلي} دليل واضح في ذلك.
وإذا حققت ذلك فمعنى {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ} أي نعلم ذلك علمًا يظهر الحقيقة للناس، فلا ينافى أنه كان عالمًا به قبل ذلك دون خلقه.
واختلف العلماء في قوله: {أَحصى} فذهب بعضهم إلى أنه فعل ماض و{أَمدًا} مفعوله وما في قوله: {لما لبثوا} مصدرية. وتقرير المعنى على هذا: لنعلم أي الحزبين ضبط أمدًا للبثهم في الكهف.
وممن اختار أن {أحصى} فعل ماض: الفارسي والزمخشري. وابن عطين وغيرهم.
وذهب بعضهم إلى أن {أحصى} صيغة تفضيل، {وأمدًا} تمييز. وومن اختاره الزجاج والتبريزي وغيرهما. وجوز الحوفى وأبو البقاء الوجهين.
والذين قالوا: إن {أحصى} فعل ماض قالوا: لا يصح فيه أن يكون صيغة تفضيل. لأنها لا يصح بناؤها هي ولا صيغة فعل التعجب قياسًا إلا من الثلاثي، {وأحصى} رباعي فلا تصاغ منه صيغة التفضيل ولا التعجب قياسًا. قالوا: وقولهم: ما أعطاه وما أولاه للمعروف، وأعدى من الجرب، وأفلس من ابن المذلق- شاذ لا يقاي عليه، فلا يجوز حمل القرآن عليه.
واحتج الزمخشري في الكشاف أيضًا لأن {أَحصى} ليست صيغة تفضيل- بأن {أَمداَ} لا يخلو: إما أن ينتصب بأفعل- فأفعل لا يعمل. وإما أن ينتصب ب {لبثوا} فلا يسد عليه المعنى أن لا يكون سديدًا عل ذلك القول، وقال: فإن زعمت نصبه بإضمار فعل يدل عليه {أحصى} كما أضمر في قوله:
وأضرب منا بالسيوف القوانسا

أي نضرب القوانس فقد ابعدت المتناول وهو قريب حيث أبيت أن يكون {أَحصى} فعلًا، ثم رجعت مضطرًا إلى تقديره وإضماره- انتهى كلام الزمخشري.
وأجيب من جهة المخالفين عن هذا كله قالوا: لا نسلم أن صيغة التفضيل لا تصاغ من غير الثلاثي، ولا نسلم ايضًا لأنها لا تعمل.
وحاصل تحرير المقام في ذلك- أن في كون صيغة التفضيل تصاغ من أفعل كما هنا، أو لا تصاغ منه. ثلاثة مذاهب لعلماء النحو:
الأول- جواز بنائها من أفعل مطلقًا، وهو ظاهر كلام سيبويه، وهو مذهب أبي إسحاق كما نقله عن أبو حيان في البحر.
والثاني- لا يبنى منه مطلقًا، وما سمع منه فهو شاذ يحفظ ولا يقاس عليه.
وهو الذي درج عليه ابن مالك في الخلاصة بقوله:
وبالندور احكم لغير ما ذكر ** ولا تقس على الذي منه أثر

كما قدمناه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله: {فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72].
الثالث- تصاغ من أفعل إذا كانت همزتها لغير النقل خاصة. كأظلم الليل، وأشكل الأمر. لا إن كانت الهمزة للنقل فلا تصاغ منها، وهذا هو اختيار أبي الحسن بن عصفور. وهذه المذاهب مذكورة بأدلتها في كتب النحو وأما قول الزمخشري: فأفعل لا يمعمل فليس بصحيح. لأن صيغة التفضيل تعمل في التمييز بلا خلاف، وعليه درج في الخلاصة بقوله:
والفاعل المعى انصبن بافعلا ** مفضلًا كأنت أعلى منزلا

و{أمدًا} تمييز كما تقدم. فنصبه بصيغة التفضيل لا إشكال فيه.
وذهب الطبري إلى أن: {أمدًا} منصوب ب {لبثوا} وقال ابن عطية: إن ذلك غير متجه.
وقال أبو حيان: قدي تجه ذلك. لأن الأمد هو الغاية، ويكون عبارة عن المدة من حيث إن المدة غاية. و{ما} بمعنى الذي، و{أمداَ} منتصب على إسقاط الحرف. أي لما لبثوا من أمد، أي مدة. ويصير من أمد تفسيرًا لما انبهم في لفظ {ما لبثوا} كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106]، {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2] ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل.
قال مقيدة عفا الله عنه: إطلاق الأمد على الغاية معروف في كلام العرب ومنه قول نابغة ذبيان:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه ** سبق الجواد إذا استولى على الأمد

وقد قدمنا في سروة النساء- أن علي بن سليمان الأخفش الصغير أجاز النصب بنزع الخافض عند أمن اللبس مطلقًا. ولكن نصب وقوله: {أمدًا}، بقوله: {لبثوا} غير سدسد كما ذكره الزمخشري وابن عطية وكما لا يخفى اهـ.
واجاز الكوفيون نصب المفعول بصيغة التفضيل، وأعربوا قول العباس بن مرداس السلمي:
فلم ار مثل الحي حيًا مصبحًا ** ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا

أكر وأحمي الحقيقة منهم ** واضر بـ: منا بالسيوف القوانسا

بأن القوانس مفعول به لصيغة التفضيل التي هي أضرب. قالوا ولا حاجة لتقدير فعل محذوف ومن هنا قال بعض النحويين إن {من} في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 117] منصوب بصيغة التفضيل قبله نصب المفعول به.
قال مقيده عفا الله عنه، وغفر له: ومذهب الكوفيين هذا أجرى عندي على المعنى المعقول. لأن صيغة التفضيل فيها معنى المصدر الكامن فيها فلا مانع من عملها عمله. إلا ترى أن قوله: وأضرب منا السيوف القوانسا معناه: يزيد ضربنا بلاسيوف القوانس على ضرب غيرنا، كما هو واضح. وعلى هذا الذي قررنا فلا مانع من كون {أمدًا} منصوب ب {أحصى} نصب المفعول به على أنه صيغة تفضيل. وإن كان القائلون بأن {أَحصى} صيغة تفضيل اعربوا {اأَمدًا} بأنه تمييز.
تنبيه:
فإن قيل: ما وجه رفه {أَي} من قوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى} [الكهف: 12] الآية، مع أنه في محل نصب مفعول به؟ فالجواب- أن للعلماء في ذلك أجوبة، منها، أن {أي} فيها معنى الاستفهام، والاستفهام يعلق الفعل عن مفعوليه كما قال ابن مالك في الخلاصة عاطفًا على ما يعلق الفعل القلبي عن مفعوليه:
وإن ولا لام ابتداء أو قسم ** كذا والاستفهام ذاله انحتم

ومنها- ما ذكره الفخر الرازي وغيه: من أن الجملة بمجموعها متعلق العلم. ولذلك السبب لم يظهر عمل قوله: {لنعلم} في لفظة {أي} بل بقيت على ارتفاعها. ولا يخفى عدم اجاه هذا القول كما ترى.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر أووجه الأعاريب عندي في الآية: أن لفظة {أي} موصولة استفهامية. و{أي} مبنية لأنهها مضافة، وصدر صلتها محذوف على حد قوله في الخلاصة:
أي كما وأعربت ما لم تضف ** وصدر وصلها ضمير انحذف

ولبنائها لم يظهر نصبها. وتقرير المعنى على هذا: لنعلم الحزب الذي هو أحصى لما لبثوا أمدًا ونميزه عن غيره. و{أحصى} صيغة تفضيل كما قدمنا توجيهه. نعم، للمخالف أن يقول: إن صيغة التفضيل تقتضى بدلالة مطابقتها الاشتراك بين المفضل والمفضل عليه في أصل الفعل، وأحد الحزبين لم يشارك الآخر في أصل الإحصاء لجهله بالمدة من أصلها، وهذا مما يقوي قول من قال: إن {أحصى} أفعل، والعلم عند الله تعالى.
فإن قيل: أي فائدة مهمة في معرفة الناس للحزب المحصى أمد اللبث من غيره، حتى يكون علة غائية لقوله، {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ} [الكهف: 12] الآية؟ وأي فائدة مهمة في مساءلة بعضهم بعضًا، حتى يكون علة غائية لقوله: {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف: 19]؟.
فالجواب- أنا لم نر من تعرض لهذا. والذي يظهر لنا والله تعالى أعلم- أن ما ذكر من إعلام الناس بالحزب الذي هو أحصى أمدًا لما لبثوا، ومساءلة بعضهم بعضًا عن ذلك، يلزمه أن يظهر للناس حقيقة أمر هؤلاء الفتية، وأن الله ضرب على آذانهم في الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا ثم بعثهم أحياء طرية أبدانهم. لم يتغير لهم حال. وهذا من غريب صنعه جل وعلا الدال على كمال قدرته، وعلى البعث بعد الموت. ولاعتبار هذا اللازم جعل ما ذكرنا علة غائية والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)}.
وقد وردتْ قصة أهل الكهف نتيجة لسؤال كفار مكة الذين أرادوا أنْ يُحرجوا رسول الله، ويُروى أنهم أرسلوا رجلين منهم هما: النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أهل الكتاب في المدينة ليسألوهم عن صدق رسول الله، وما خبره عندهم، وما ورد عنه في كتبهم.
وقد كان يهود المدينة قبل البعثة يتوعدون الأوس والخزرج عباد الأصنام ببعثة النبي الجديد، يقولون: لقد أطلَّ زمان نبيٍّ نتبعه ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم؛ لذلك رغب أهل مكة في سؤال يهود المدينة عن صدق رسول الله، فلما ذهب الرجلان إلى يهود المدينة قالوا: إنْ أردتُمْ معرفة صدق محمد فاسألوه عن ثلاثة أشياء، فإنْ أجابكم فهو صادق، اسألوه: ما قصة القوم الذين ذهبوا في الدهر مذاهب عجيبة؟ وما قصة الرجل الطوّاف الذي طاف الأرض شرقًا وغربًا؟ وما الروح؟
وفعلًا ذهب الرجلان إلى رسول الله، وسألاه هذه الأسئلة فقال صلى الله عليه وسلم: «أخبركم بما سألتم عنه غدًا» وجاء غد وبعد غد ومرَّت خمسة عشر يومًا دون أنْ يُوحَى لرسول الله شيء من أمر هذه الأسئلة، فشقّ ذلك على رسول الله وكَبُر في نفسه أنْ يعطِي وَعْدًا ولا يُنجزه.
وقالوا: إن سبب إبطاء الوحي على رسول الله في هذه المسألة أنه قال: «أخبركم بما سألتم عنه غدًا» ولم يقُلْ: إنْ شاء الله؛ ولذلك خاطبه ربه تبارك وتعالى بقوله: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [الكهف: 23-24].
وهذه الآية في حَدِّ ذاتها دليل على صدق رسول الله، وعلى أدبه، وعلى أمانته في البلاغ عن ربه عز وجل، وقد أراد الحق سبحانه أن يكون هذا الدرس في ذات الرسول ليكون نموذجًا لغيره، وحتى لا يستنكف أحد إذا استُدرك عليه شيء، فها هو محمد رسول الله يستدرك عليه ربه ويُعدِّل له.
فكأن قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [الكهف: 23-24] تربية للأمة في شخصية رسولها حتى لا يستنكف المربَّى من توجيه المربِّي، ما دام الهدف هو الوصول إلى الحقيقة، فإياكم أن ترفضوا استدراك رأي على رأي حتى وإنْ كان من الخَلْق، فما بالك إنْ كان الاستدراك من الخالق سبحانه، والتعديل والتربية من ناحيته؟
وإليك مثال لأدب الاستدراك ومشروعية استئناف الحكم، لقد ورد هذا الدرس في قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78].
فكان حكم داود عليه السلام في هذه المسألة أنْ يأخذ صاحب الزرع الغنم التي أكلتْ زرعه، فلما بلغ سليمان هذه الحكومة استدرك عليها قائلًا: بل يأخذ صاحب الزرع الغنم ينتفع بها، ويأخذ صاحب الغنم الزرع يُصلحه حتى يعودَ إلى ما كان عليه، ثم تعود الغنم إلى صاحبها، والزرع إلى صاحبه.
لذلك قال تعالى بعدها: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] ولم يتهم داود بالخطأ، بل قال: {وَكُلًا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] ونلحظ هنا أن الاستدراك لم يَأْتِ من الأب للابن، فيكون أمرًا طبيعيًا، بل جاء من الابن للأب ليؤكد على أنه لا غضاضة أنْ يستدرك الصغير على الكبير، أو الابن على الأب، فالهدف هو الوصول إلى الحق والصواب، ونبيّ الله سليمان في هذه المسألة لم يغُضّ الطرف عن هذا القصور في حكومة أبيه، بل جهر بالحق ونطق به؛ لأن الحق أعزّ من أيِّ صلة حتى لو كانت صلة الأبوة.
ومن هذه القضية نعلم استدراك الخَلْق على الخَلْق أمر طبيعي ومقبول لا يستنكف منه أحد، ومن هنا جاءت فكرة الاستئناف في المحاكم، فلعل القاضي في محكمة الاستئناف يستدرك على زميله في المحكمة الابتدائية، أو يقف على شيء لم يقف عليه، أو يرى جانبًا من القضية لم يَرَهُ.
ولنا هنا وَقْفة مع أمانته صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن الله، وأنه لم يكتم من الوحي شيئًا حتى ما جاء في عتابه والاستدراك عليه، فكأنه أمينٌ حتى على نفسه، فالرسول هو الذي بلغنا: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَدًا} [الكهف: 23] وهو الذي بلَّغنا: {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1].
وهو الذي بلغنا في شأن غزوة بدر: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] وغيرها كثير من آيات القرآن؛ لذلك مدحه ربه تعالى بقوله: {وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ} [التكوير: 24].